الثلاثاء، يونيو 07، 2011

مجاهد العامري


فتنة الأندلس:

عاشت دولة الأندلس أياما سعيدة تحت الحكم الموحد للخلافة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش منذ سنة 138 هـ، وظلت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان حتى آل الأمر للتفرق وفساد ذات البين واقتتال المسلمين فيما بينهم على الحكم، وسقطت الخلافة القوية وسقطت معها وحدة المسلمين وقوتهم وتحول جسد الأمة المسلمة الكبير في الأندلس إلى أشلاء ينتهب منها كل طامع نهبته ويقضم من أجزائها قدر ما يستطيع من الأراضي والبلدان.


وكانت قواعد الأندلس الشرقية عند الفتنة من نصيب الفتيان العامريين موالي القائد العظيم 'المنصور بن أبي عامر'، وكان معظم أولئك الفتيان من الصقالبة من أصول أجنبية [ألمان وفرنسيين وإيطاليين ومن أهل البلقان] حيث يؤتى بهم وهم أطفال، ويربون في البلاط تربية إسلامية خالصة.






من هو مجاهد العامري؟

هو أبو الجيوش 'مجاهد بن يوسف بن علي' الملقب بـ'مجاهد العامري' نسبة إلى أستاذه ومعلمه الأول 'المنصور بن أبي عامر' والذي اعتنى به عناية خاصة لما رآه فيه من خلال وصفات باهرة من قوة وشجاعة إلى نسك وورع وتضلع في علم اللغة والقرآن؛ وهي صفات رشحته لأن يكون واليا على حكم 'دانية' ومنطقة الجزائر الشرقية، وظل عليها واليا حتى اضطرمت الفتنة بالأندلس بعد وفاة المنصور بن أبي عامر وما تبعه من سقوط الخلافة الأموية التي كان مجاهد العامري من أشد مؤيديها، فرأى مجاهد أن من المصلحة أن يستقل بحكم منطقة الجزائر الشرقية ويبحث عن رجل من بني أمية ينصبه خليفة للمسلمين على أمل إحياء الخلافة الإسلامية من جديد بالأندلس، ووجد ضالته في رجل من أهل العلم يلقب بـ 'المعيطي' وينتسب إلى بني أمية، وبالفعل نصبه خليفة على المسلمين بشرق الأندلس عام 405 هـ .



صفات مجاهد العامري :

كان مجاهد العامري نسيجا منفردا حيث جمع بين كثير من الخصال والصفات الحميدة وذلك في مجالات شتى؛ فهو بطل شجاع من أعظم فرسان عصره لا يباريه في المبارزة والرماية إلا القليل، يباشر القتال بنفسه وكثيرا ما كان يخرق صفوف العدو أثناء القتال، وكان لا ينضم لكتيبته الخاصة إلا أعظم الفرسان .


وفي التجارة كان مجاهد من أذكى ملوك الطوائف وأعلمهم بالشئون المالية والتجارية، وأنشأ أسطولا من السفن التجارية حقق من ورائه ثروة طائلة أحسن استغلالها في زيادة قوة ومناعة وعمران شرق الأندلس .


ولكن أعظم صفات مجاهد العامري كانت تتمثل في حبه للقرآن وعلوم القراءات والتفسير واللغة العربية؛ فقد كان مجاهد رغم أنه من الموالي إلا أنه شديد العروبة محبا للقرآن منذ صباه، صيتا به، معنيا بعلومه؛ حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من كتب العلم خزائن جمة، فأمه جل العلماء وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه؛ فانتشر العلم في دولته وقصده أكبر العلماء في القرآن واللغة أمثال 'أبو عمرو بن سعيد الداني' صاحب القراءات الشهير و'أبو عمر بن عبد البر' صاحب كتاب الإجماع، و'ابن معمر' اللغوي، و'ابن سيده' صاحب كتاب المحكم، وغيرهم كثير حتى فشا العلم بين الجواري والغلمان وصارت الجزائر الشرقية منارة العلم والقرآن بالأندلس .




مجاهد أسطورة البحر المتوسط:

كان مجاهد العامري من أعظم بحارة الإسلام في هذا العصر ومن أكثرهم تمرسا بالحروب والغارات البحرية حتى أصبح أسطورة البحر المتوسط وأحيطت شخصيته في المراجع الأجنبية بالكثير من الخيال والروعة، بل إن تفاصيل حملاته البحرية على أوروبا نجد ذكرها في المراجع الإيطالية واليونانية، ولا نجد لها ذكرا في المكتبة الإسلامية، وقد أطلق عليه المؤرخون الغربيون اسم 'موجيتوس' وهو اسم كان كفيلا أن يلقي الرعب والفزع في قلوب سكان إيطاليا وفرنسا لفترة تزيد عن ثلاثين سنة، وكانت غزوة جزيرة 'سردانية' هي أعظم معاركه وغزواته البحرية، والسبب الرئيس كان لشهرة مجاهد في أوروبا وحوض البحر المتوسط الغربي .



غزوة جزيرة سردانية [ربيع الثاني 406 هـ ]

بينما كانت دول الطوائف الأخرى تخوض غمار المنازعات والحروب المحلية الصغيرة، كان مجاهد العامري يفكر في مشروع ضخم ربما كان أعظم مشروع فكر فيه أمير من الأمراء في دولة الأندلس، ذلك هو غزو جزيرة سردانية وفتحها، وقد كان مجاهد زعيما قوي النفس خبيرا بحريا يرى أن إمارته الساحلية وأملاكه البحرية تقتضي أن يكون اعتمادها في القتال على الأساطيل قبل كل شيء، فاهتم بتقوية الأسطول فجدد دار الصناعة القديمة التي كانت بدائية واستكثر من شراء السفن والمعدات الحربية حتى صار عنده خلال فترة وجيزة أقوى أساطيل البحر المتوسط، واستعد لمشروعه الخطير، فحشد أسطولا قوامه مائة وعشرين سفينة مشحونة بالأبطال والعتاد الحربي، وأقلعت الحملة البحرية من 'دانية' في ربيع الأول سنة 406 هـ [أغسطس 1015 م] وكانت جزيرة سردانية موضع اهتمام المسلمين منذ فتح الأندلس وقد غزاها المسلمون عدة مرات سنة 711 م، 752 م، 813 م، 816 م، 817 م، 838 م بيد أن هذه الحملات كلها كانت عارضة لا تخطط للبقاء بالجزيرة، وكانت هذه الجزيرة تحت حكم الدولة البيزنطية ثم حكم الإفرنج ولكنها كانت مستقلة ذاتيا يحكمها قادة محليون، وكانت طبيعتها الوعرة وشجاعة أهلها الجبليين واعتزازهم بحرياتهم مما يعاون على دفع الغزاة ورد الحملات الغازية العارضة .




كانت حملة مجاهد العامري على جزيرة سردانية كبيرة قوية تخطط للبقاء بالجزيرة وإقامة سلطان الإسلام فيها بكل عزم وقوة، ووصلت الحملة إلى الجزيرة بعد ثمانية أيام ورست في خليج كالياري في جنوب الجزيرة ثم انساح الغزاة المسلمون إلى داخل الجزيرة بمنتهى القوة كالسيل الهادر ووقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك دموية قتل فيها جمع غفير في مقدمتهم قائد الجزيرة 'مالوتو' وأسر المسلمون جموعا غفيرة وأصبحت الجزيرة تحت حكم المسلمين .

شرع مجاهد في توطيد وضع المسلمين بالجزيرة فأنشأ بها مدينة واسعة ونقل أهالي المجاهدين والمسلمين الفاتحين إليها واستقدم هو زوجته وولده الوحيد عليا وباقي أسرته .


كان لهذه الغزوة الجريئة رد فعل عنيف وقوي لدى البابوية والدول الإيطالية القريبة خاصة أن مجاهد العامري جعل جزيرة سرداينه قاعدة انطلاق جهادية على شواطئ إيطاليا خاصة 'جنوه' و'بيزا' وكلاهما من أقوى الدول البحرية في البحر المتوسط، وفي الحال أعلن البابا 'بندكتوس الثامن' الحرب الصليبية ضد المسلمين وكون أسطولا ضخما أضعاف أضعاف الأسطول المسلم وقرر الهجوم على سردانية لتحريرها من المسلمين .


وصلت أخبار الحملة الصليبية البحرية لمجاهد العامري فقرر الاستعداد لها بقوة وبالغ في تحصين الجزيرة ولكن تضافرت عليه عوامل كثيرة أدت ف النهاية لهزيمة المسلمين؛ منها مقاومة أهل الجزيرة من الداخل، وسآمة الجنود المسلمين من رداءة الطقس وقلة الغنائم والبعد عن الأوطان وهبوب الرياح والعواصف العاتية على الأسطول المسلم الراسي في خليج كالياري مما أدى لغرق الكثير من سفن الأسطول المسلم .


كانت الهزيمة التي حلت بالمسلمين من الشدة بمكان أن أسرة مجاهد نفسه قد وقعت في الأسر كلها ولم ينج من الأسطول الضخم البالغ قوامه مائة وعشرين سفينة سوى بضع سفن فقط عادت إلى الأندلس تجتر هزيمة شنيعة وتبكي قتلى وأسرى بالآلاف، وهكذا تحطم هذا المشروع الضخم ولم يتح للمسلمين أن يستقروا في سردانية كما أتيح لهم من قبل أن يستقروا في صقلية، ولو نجح مجاهد العامري في مشروعه واستقر المسلمون في سردانية لكان مرجعا أن تزدهر بها حضارة إسلامية كبيرة تشع على ظلمات أوروبا ولربما صارت أوروبا بعدها كلها مسلمة.



ولكن هذه الهزيمة القادحة لم تمنع مجاهد العامري من أن يواصل حملاته البحرية القوية في حوض البحر المتوسط مما جعله أسطورة البحار وكابوسا يقلق كرسي البابوية سنوات طويلة .




































ليست هناك تعليقات: