الأربعاء، فبراير 16، 2011

إن الله رفيق يحب الرفق

 
_التسامح 9-1-2011

الرفقُ شفيعٌ لا يُرَدُّ في طلبِ الحاجاتِ ، ولك أن تعلم أن الطريق الضيق بين جدارين ، الذي لا يتسع إلا لمرور سيارةٍ واحدةٍ فَحَسْبُ ، لا تدخلُها هذه السيارة إلا برفقٍ من قائدِها وحذرٍ وتوقٍّ ، بينما لو أقبل بها مسرعاً وأراد المرور من هذا المكان الضيقِ لاصطدم يمْنةً وَيسْرَةً وتعطلتْ سيارتُه ، والطريقُ لم يزِد ولم ينقصْ ، والسيارةُ هي هي ، لكنَّ الطريقة هي التي اختلفت، تلك برفقٍ وهذه بشدَّةٍ .
والشجرةُ الصغيرةُ التي نغرسُها في حوضِ فناءِ أحدِنا ، إذا سكبت عليها الماء شيئاً فشيئاً تشربُ منه وينفعُها ، فإذا أخذت كميةً من هذا الماء بعينهِ وحجْمه وألقيته دفعةً واحدة لاقتلعت هذه النبتة من مكانِها ، إن كمية الماءِ واحدةٌ ولكن الأسلوب تغيَّر .
إن منْ يخلعُ ثوبه برفقٍ يضمنُ سلامة ثوبِه ، خلاف من يجذِبُه بقوةٍ ويسحبُه بسرعةٍ ، فإنه يشكو من تقطُّعِ أزرارِه وتمزُّقِهِ . ومن اللطائف في انكشافِ عَدَمَ صدقِ إخوةِ يوسف في مجيئِهم بثوبِهِ ، وزعْمِهم أن الذئب أكله : أنهم خلعُوا الثوب برفق فلم يحصل فيه شقوقٌ ، ولو أكله الذئبُ كما زعموا لمزَّق الثوب كلَّ ممزَّقٍ ، ولم يخلْعْه خلْعاً . إن حياتنا تحتاجُ إلى رفقٍ نرفقُ بأنفسِنا : ( وإن لنفسِك عليك حقا)ً . نرفقُ بإخواننا : ( إن الله رفيق يحب الرفق ) . نرفقُ بالمرأةِ : (رفقاً بالقواريرِ ).
على الجسورِ الخشبيِة التي بناها الأتراكُ على ممراتِ الأنهارِ ، مكتوبٌ في أول الجسرِ : رفقاً رفقاً . لأن المارَّ بهدوءٍ لا يسقطُ ،أما المسرعُ فجديرُ أن يهوي إلى مستقرِّ النهر.
وفي مذكّراتٍ لأديب سوريٍّ كان يسكنُ في مدينة « السلمية » ، وله درَّاجةٌ ناريةٌ ، أراد أن يعبر بها على جسر بناه الأتراكُ من الخشبِ على النهرِ ، وهم بنوْه لمن أراد أن يمشي بدراجته متئداً متأنياً ، قال هذا الرجل : فذهبتُ مسرعاً على جسري ، فلما أصبحتُ من أعلى الجسرِ متوسِّطاً النهر ، نظرتُ يَمْنَةً ويَسْرَةً ، وأنا لم أرفقْ بنفسي ولا بدراجتي فاضطربتْ بي واختلَّ نظري ، فوقعتُ بدراجتي في النهرِ ... وكانت قصةً طويلة .
إنَّ على مداخلِ حدائقٍ الزهورِ والورود في بعضِ مدنِ أوروبة : لوحةٌ مكتوب فيها : «تَرَفَّقْ» ، لأن الداخل مسرعاً لا يرى ذاك النبت الجميل ولا يضمنُ سلامة ذاك الوردِ الباهي ، فيحصل الدعس والدفس والإبادة ، لأنه ما رفق ولا تأنَّى.
هناك معادلة تربوية تقول : إن العصفور لا يترفَّقُ كالنحلة . وفي الحديث : ( المؤمنُ كالنحلة ، تأكلُ طيباً وتضعُ طيباً ، وإذا وقعتْ على عُودٍ لم تكسْرِه ) . فالنحلة لا تُحِسُّ بها الزهرةُ أبداً ، وهي تعلقُ الرحيق بهدوء ، وتنالُ مطلوبها برفقٍ .
والعصفورُ على ضآلةِ جسمِه يخبرُ الناس بنزولِه على سنابل ، فإذا أراد النزول سقط سقوطاً ، ووثب وثْباً .
ولا أزالُ أذكرُ قصة الرسَّام الهنديِّ ، وقد رسم لوحةً بديعة الحسنِ ملخَّصها : سنبلةُ قمح عليها عصفورٌ قد وقع ، وهذه السنبلة مليئةٌ بالحبِّ ، مترعرعةُ النموِّ ، باسقةُ الطولِ ، وعلَّقها الملِكُ على جدارِ ديوانِه ، ودخل الناسُ يهنِّئون الملك بهذه اللوحةِ ويشكرون الرسَّام على حسنِها ، ودخل رجلٌ فقيرٌ مغمورٌ في وسطِ الزحامِ فاعترض على اللوحةِ ، وأخبرَ أنها خطٌأ ، وضجَّ الناسُ به وصجُّوا ، لأنه خالف الإجماع، فاستدعاه الملكُ برفقٍ وقال : ما عندك؟ قال : هذه اللوحةُ خطٌأ رسمُها ، وَغَلطٌ عرْضها . قال : ولِمَ ؟ قال : لأنَّ الرسام رسمَ العصفور على السنبلةِ وترك السنبلة مستقيمةً ممتدةً ، وهذا خطٌأ ، فإنِّ العصفور إذا نزل على سنبلة القمحِ أمالها، وأخضعها ، لأنه ثقيلٌ لا يملكُ الرفق . قال الملكُ : صدقت . وقال الناسُ: صدقت . وأنزل اللَّوْحة ، وسُحبت الجائزةُ من الرسامِ .
إنَّ الأطباء يُوصون بالرفقِ في تناولِ العلاجِ ، وفي مزاولةِ العملِ والأخذِ والعطاءِ . فذاك يقلعُ ظفْره بيده ، وذاك يباشرُ سِنِّه بنفسِه ، وآخر يَغُصُّ باللقمة ، لأنه أَكَبرَها وما أحسن مضْغها.
قرأتُ لبعضِ السلفِ أنه قال : إن مِن فِقْهِ الرجل رِفْقَهُ في دخولِه وخروجِه منه ، وارتداءِ ثوبِه وخَلْعِ نعلِه وركوبِ دابتهِ . إن العَجَلةَ والهوجَ والطيْشَ في أخذ الأمورِ وتناولِ الأشياء ، كَفِيلةٌ بحصولِ الضررِ وتفويتِ المنفعِة ، لأن الخَيْرَ بُني على الرفقِ : ( ما كان الرفقُ في شيء إلاَّ زانه ، وما نُزع الرفقُ من شيء إلاَّ شانهُ ).
إنَّ الرفق في التعاملِ تُذعنُ له الأرواحُ ، وتنقادُ له القلوبُ ، وتخشعُ له النفوسُ . إن الرفيق من البشرِ مِفتاحٌ لكلِّ خَيْرٍ ، تستسلمُ له النفوسُ المستعصية ، وتثوبُ إليه القلوبُ الحاقدةُ ، ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾

د. عائض القرني

ليست هناك تعليقات: